Saturday, 14 June 2008

قلعة الرمل


نسيم عليل داعب بوصيلات الشعر ، أشعة الشمس الدافئة تسللت إلى ثنايا الجلد ، رائحة البحر المالحة ملأت الصدر ، صوت هدير الموج شنف الآذان وأطربها ، والصبح بذا كان يطل بضوئه ونسيمه على شاطئ جمصة ، تلك المدينة الريفية الساحلية البكر التابعة لمحافظة الدقهلية ، لم تتجاوز الساعة بعد السابعة صباحا ، واليوم يوم الاثنين العاشر من شهر يونيه لعام 2008 ، وهو اليوم العاشر من الأيام العشرين للإجازة السنوية من عملي في وزارة الأوقاف القطرية الذي لم يمر عليه إلا سنة واحدة ، وكم تمنيت إجازة كهذه منذ أكثر من عشر سنوات مضت ، وتحديدا منذ بدأت العمل في القاهرة بعد انتهاء فترة التجنيد والخدمة العسكرية عام 1998.




أمسكت بيد أبنائي الصغار أشجعهم على اقتحام البحر ومواجهة الأمواج ، وقع خالد (الصغير) في مياه البحر وشرب منها وبعدها قرر الابتعاد عن مياه البحر والانضمام إلى صفوف المتفرجين ، أما حمزة (الكبير) فقد ساعده نمو جسده على مواجهة الموج وتفادي الشرب من مياه البحر المالحة فتولدت بداخله شجاعة فطرية بريئة وراح يتابع اللعب مع الأمواج مستمتعا بدفء الماء الذي قلل من دفئه نسيم الصباح ، فأصبح الولد بين دفئ الماء وبرد الهواء ، وما لبث أن قرر هو الآخر الابتعاد عن مياه البحر والانضمام إلى صفوف المتفرجين إلى حين شروق الشمس لتدفئة الهواء ، وأم البنين كعادتها لا تحب خوض المياه ولكنها تعشق نسيم الصباح وضوء الشروق ، أما أنا فقد بللت جسدي بالماء بعد غطس أو غطسين وبعدها انضممت بدوري لصفوف المتفرجين.




أصبح كل الفريق .. متفرجون :) ، فقررت تغير اللعبة وتحويل المتفرجين إلى لاعبين ، وطافت بذهني أمنية قديمة ، عمرها أكثر من عشرون عاما ، حين كنت في المرحلة الإعدادية كنت أتمنى أن أبني بيتا أو قلعة من رمل الشواطئ كما أشاهد في التلفزيون ، وقتها كانت الأمنية صعبة التحقيق بسبب قلة الخبرات المطلوبة لتنفيذ هذا العمل سواء الخبرات الذاتية مثل (الصبر والتحمل والتخيل والإبداع والنفس الطويل والرؤية والمنافسة والإدراك) أو الخبرات العملية مثل (الدراسات الهندسية كالوصفية والفراغية والرسم الهندسي) ناهيك عن امتلاك الوقت ومن ثم زمام الأمور والمبادرة.

هيا .. سنبني قلعة .. كانت تلك هي شرارة البداية ، بدأت بتجميع الرمل على مسافة مناسبة من مقاعد المتفرجين ، وطلبت من أولادي المشاركة بتجميع أكبر قدر ممكن من الرمل المبلل بالماء حتى يكون أكثر تماسكا وأسهل في عملية التشكيل ، قررت حفر الخندق حول القلعة ووجدت ذلك سابقا لأوانه فقررت بناء القلعة أولا ، بدأت بسورها الذي تحول فيما بعد لقاعدة البناء ثم قبتها ثم عموديها ثم بوابتها وبعض الزخارف البسيطة ، استخدمت ألعاب الأولاد (الجردل والكوريك والجاروف) وملعقة الكشري وعصا طويلة كالتي تستخدم في عمل الشيش-طاووك ، وجدتها ملقاة على الشاطئ ، يستخدمها الباعة المتجولون في بيع ما يسمى بخد-الجميل (تفاح مدهون بعسل لونه أحمر) ، كان للعصى أثر السحر على البناء وكانت بمثابة ريشة الرسام والرمال لوحتها ، الرمال في جمصة مختلفة عنها في مرسى مطروح أو في الإسكندرية ، في جمصة الرمال ليست ناعمة بالقدر الكافي وهي مليئة بالصدف والقشور ناهيك عن تلوث الرمال بمخلفات الأكل والشرب الناتج عن السلوك الغير حضاري لمرتادي هذا الشاطئ.





بعد ساعة من بداية العمل قام الفريق بجولة نعاسية يمكن أن نطلق عليها (بريك نوم) لمدة جاوزت الساعة ، وكانت هذه بالنسبة لي لحظات الهدوء والإبداع حيث ظهرت معالم البناء واتضحت هويته ، فقد قررت أن تقودني محدودية المواد الخام وندرة الأدوات وقيود الزمن إلى بناء-ما ليس شرطا فيه أن يكون قلعة قدر ما يكون شبه قلعة ، بعد ثلاثة ساعات من بداية العمل تحققت الأمنية وارتفع البناء شامخا على شواطئ جمصة ، كان بسيطا ولكنه متناسق ومتماسك ، حقق المثل القائل الجمال في البساطة.





الظريف في الأمر أنه أصبح معلم سياحي لمرتادي الشاطئ والمارة ، وحظي بثناء الكثيرين وحظيت معه بكثير من المعجبين ، وأصبح قبلة المصيفين من أرجاء الشاطئ القريبة يأتون إليه يشاهدونه ويلتقطون له صورا تذكارية ، فطرقت ببالي فكرة استثمارية سياحية وطنية من شأنها تنمية الوطن وجلب رؤوس الأموال الأجنبية ورفع دخل الفرد والمعاناة عن كاهل الفقراء ، فلماذا لا نفتح باب التذاكر لزيارة هذا المعلم الأثري الجليل الشامخ على أرض جمصة :) ، أسررت بذلك لأم البنين فنصحتني بعدم اللعب مع الكبار والبعد عن معترك السياسة فأومأت لها بالموافقة وغابت عن بالي تماما هذه الفكرة الغريبة التي أرجوا ألا تعكر صفو القارئ الكريم.





بقيت أحرس البناء من غارات المعتدين حتى جاوزت الساعة الثالثة واشتد لهيب الشمس وامتلئ الشاطئ بالمصيفين ، فقررت التخلي عن المشروع السياحي برمته وتسليم رايته لجاري المصيف (فالجار أولى بالشفعة) وتركته لأبناء المصيف يتعلمون من ومضات الفكر فيه ونورانيات الإبداع وفنون العمارة والهندسة ما يتعلمون.

وإلى لقاء قريب في موضوع جديد.