Saturday, 7 November 2009

إضافة للإنسانية - قصة سجادة الخضر




سـجّادة الخضـر!
محمد عبد الشافي القوصي

على غير العادة؛ خرجتُ في عجل .. وحتى السائل المسكين الذي استوقفني لم أكترث به؛ لأنني كنتُ عازماً في هذه المرة على رؤية (الخضـر) مهما كانت العقبات!
وبعد مسيرة شهر أو يزيد، وصلتُ إلى الخيمة .. وقبل أن أطرق الباب، ناداني الحاجِب: ارجع فتوضأ. قلتُ: إنني متوضئ.
فقال: وضوءكَ يحتاج إلى وضوء!
فقلتُ في نفسي: يبدو أن هذا الرجل مثل "الحـلاّج" وغيره من مجانين الصوفية.
ولمّا توضأتُ، وأقبلتُ على الخيمة، ناداني: اذهب واغتسل، وانطق بالشهادتيْن!
ففعلتُ ما أمر به، ثم أتيته.
فقال لي: استغفر الله ألف مرة حتى يُؤذَن لك .. لعلّ .. وعسى!
فظللتُ أستغفر وأستغفر حتى هممتُ بالرجوع.
فقلتُ: ألا يكفي كل هذا الاستغفار؟ فقال: استغفاركَ يحتاج إلى استغفار!
قلتُ أيّ ذنبِ اقترفته أنا في هذا اليوم؟ فقال: انظر إلى يدكَ الملطّخة بدماء الحـلاّج!
وفي الليلة الثانية، استأذنته في الدخول .. فقال: لن ترَ (الخضر) حتى تتحلّى بالأدب وتتواصى بالصبر الجميل ... ثم أمسكَ بيدي، وقال بصوتِ منخفض: في غزوة أُحُد، كان الشهداء يتساقطون، واشتاق (أبو الحسن) أن يلحق بهم .. وظلّ يردّد: متى يأتي دوري؟ فقلتُ له: اصبر يا عليّ؛ فإنّ أمامكَ طابوراً طويلاً .. وهناك مهام جليلة تنتظرك!
حتى (ابن الخطاب) نفد صبره، وبعثَ منادياً في المدينة ينادي: مَنْ يشتري الخلافة من (عُمَر) بأربعة دراهم؟ فقلتُ له: لو فعلتَ ذلك، لأحزنتَ (الصِدِّيق) في قبره، لأنه عهد إليكَ بهذه الأمانة!
ثم وضع الحاجِب يده الحانية على كتفي، وقال بحزن شديد: لماذا يبدو عليكَ القلق؟
فشكوتُ له الغُربة وطول السفر. فقال: لو أنكَ أجبتَ السائل الواقف بجوار بيتك، ما كنتَ تحتاج إلى هذا السفر البعيد!
ثم نظر إليّ نظرةً فاحصةً دقيقة، وسألني: من أين أتيت؟
قلتُ: من عند ]رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ[ [النور :37].
فقال: دعْكَ من هؤلاء الضائعين المفرطين .. وسأرسلكَ إلى قومٍ ]تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ[ [السجدة :16].
ثم سألني: كيف تعيش في هذه الدنيا أيها المُريد؟ قلتُ: لا أحمل هَمّ اليوم ولا الغد .. ولا أخشى فوات الرزق.
فضحكَ ساخراً، وقال: هيهات هيهات .. هكذا تفعل كل الدواب، حتى الكلاب الضالة، لا تحمِل هَمّ الغد ولا بعد الغد، ولا تبحث عن الطعام إلا إذا أُلقِيَ إليها!
* * *
وقبل الرحيل .. قلتُ: هل يحق لي -يا سيّدي- أن أسألكَ سؤالاً واحداً؟
فابتسم، وقال: لعلّكَ تريد أن تعرف من هذا الفتى الجميل الذي خرج مسرعاً من الخيمة .. إنه (يوسـف)!
قلتُ متعجّباً: يوسـف بن يعقوب؟! قال: نعم .. الذي هَمّ بامرأة العزيز! أمّا الذي لم يهِمّ فهو أحد مريدي السائل الذي استوقفكَ عند منزلك! ولو لم يكن كذلك لما استطاع أن يأتي لسليمان بالعرش قبل أن يرتدّ إليه طرفه!
ثم نظر إليّ الحاجِب بشفقة، وقال: ارجع الآن من حيث أتيتَ يا فتى، واستغفر كل ليلة ألف ألف مرة، حتى تتطهّر من الأحقاد والأوهام والبدع والجهالة والظنون .. لتحظى -ولوْ مرة- بالجلوس على (سجّادة الخضر) ليعلّمكَ بعضاً من أسرار البَسْمَلَة!