قديما كان يراودني حلم وكان لي عشق بالترحال ورؤية البلدان والقرى والنجوع وسفوح الجبال والقمم والوديان والقيعان، كنت أقرأ عن ابن بطوطة وعن الإدريسي وعن ماجلان وعن الخرائط والرسوم ومختلف الأفكار وأقرأ عن علماء العرب القدماء الذين ملئوا الأرض علما وتعلما ولم تمنعهم وعورة الأرض ومشقة الأسفار ومخاطر الترحال من تحقيق أحلامهم استجابة لأمر ربهم "قل سيروا في الأرض فانظروا".
مازلت أذكر أنني في نهايات العقد الثاني من حياتي وبدايات العقد الثالث أردت أن أجوب مصر ترحالا بالدرجات الهوائية البسيطة أنا ومجموعة من الفتيان، ولم تلقى فكرتنا قبولا لدى الآباء، ولعلهم كانوا على حق ولعلنا لم ندرك وقتها المخاطر والأضرار التي تحيق بكل ما يوصف بالضعف سواء كانوا فتيان أو أطفال أو نساء أو شيوخ، ولم لا ونحن نسمع هنا وهناك ومن وقت لثاني عن خطف وسطو واعتداء وقتل واغتصاب عافانا الله وإياكم من كل شر ووبال.
وما انفكت الأيام من الدوران حتى صار الحلم حقيقة وطفت الأرض بالسيارة وقطعت الوديان وسرت بين الجبال في رحلة الألفي ميل ونيف وأنا على مشارف ونهايات العقد الرابع من حياتي.
بدأت الرحلة في تمام الخامسة والنصف مغرب يوم الأربعاء العشرون من شهر رجب لعام 1429هـ (الثالث والعشرون من شهر يوليو لعام 2008)، بدأت من الدوحة في قطر على بعد 80 كيلومتر من الحدود السعودية وتحديدا اتجاه بوابة العبور "أبو سمرة" الواقعة على شواطئ سلوى المحاذية للحدود القطرية مع السعودية. ركبت السيارة الفورد أنا وأبنائي حمزة وخالد ومعهم أم البنين رفيقة الدرب وحبيبة القلب، السيارة ليست كبيرة الحجم ولا ذات سعة بنزين عالية، هي سيارة عادية ولكن حالتها ممتازة والحمد لله. مرت الساعات كأنها الدقائق وعبرنا الحدود في حدود الساعة 9 مساء وجاء التأخير بسبب السهو عن إجراء "الخروجية" المطلوب لعبور الحدود، وجن علينا الليل واتجهنا إلى مدينة الهفوف في قلب صحاري الجزيرة العربية، كان الظلام حالك والطريق موحش ولا يكاد المسافر في هذا الوقت أن يرى من بجواره ناهيك عن جوانب الطريق التي لفتها العتمة وكسها الغموض فتسرب لقلوب الصغار خوفٌ من المجهول ورهبة من ظلمت الليل، كان القمر في السماء لا يكاد يضيء، مر الوقت بطيئا حتى وصلنا الهفوف بعد أن قطعنا 145 كيلومتر وقد مرت ساعة ونصف تقريبا وأصبحت الساعة 11:30، في مثل هذا الطريق تشعر بشعور حمزة عم النبي (صلى الله عليه وسلم) تشعر أن للكون إله وأنك لابد عابده.
بعد أن ملئنا السيارة بالبنزين بدأ المسير من جديد إلى الرياض عاصمة السعودية وقلب جزيرة العرب، شعرت بعد نصف ساعة من القيادة بقبضة في قلبي لازلت فاكرها قبضة يأس أراد الشيطان بثها ولم تقبلها إرادتي وعزيمتي وتصميمي وما لبثت أن ارتحلت في صحاري مظلمة كاحله ولم تعد بعدها بمن الله وفضله تأتيني، بعد نصف ساعة أخرى انتعش قلبي بعد أن دخلنا الطريق الرئيسي للرياض ما يطلقون عليه "الطريق الجديد" ، طريق واسع وواضح وترى بجوارك من وقت لآخر سيارات تمر حيث لا شعور بالوحدة من جديد، ظل حال الطريق هكذا إلى أن وصلنا الرياض في حدود الساعة الثالثة من صباح اليوم التالي، في مثل هذا الطريق يتغير المفهوم عن المسافات فال100 كيلو هذه كخمسة فيما سواه. قطعنا مسافة ال400 كيلو من الهفوف إلى الرياض في أربع ساعات تقريبا وتخلل المسافة خمس مرات وقوفا لملئ ما ينقص من بنزين السيارة فيجب هنا أن ينتبه السائق لأهمية ذلك إذا ما رأى مؤشر الوقود وهو يقيس ربع استهلاك خزينة الوقود.
قضينا يوم الخميس عند واحد من الأصدقاء وقد أيقنا أن السفر ليلا ليس بالقرار الصائب في مثل هذه الدروب، وفي صبيحة يوم الجمعة وبعد صلاة الفجر وتمام الخامسة صباحا بدأ الزحف إلى مكة أم القرى وكان الطريق طويلا ولكنه بدأ في ساعات الصباح الأولى ومع إشراقة الشمس فلم نشعر إلا بحلاوة الطريق ولذة النظر إلى الجبال وكيف أن هذا الخالق عظيم وأنه على كل شيء قدير وتذكرت قول الله عز وجل "ويسألونك عن الجبال قل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا".
في تمام الثانية عشر ظهرا وصلنا السيل الكبير "ميقات أهل نجد ومن أتى عليها" فأحرمنا ولبينا وتأدبنا وتذكرنا أننا قادمون لمد اليمين إلى يمين الله في الأرض وكله يمين "الحجر الأسعد" قادمون تلبية طوعا لا كرها، قدمنا مكة بعد صلاة الجمعة وبعد صعوبة بالغة في إيجاد مكان للسيارة اتجهنا للبيت الحرام وطفنا به سبعا ثم صلينا بمقام إبراهيم ثم سعينا بين الصفا والمروة وأتممنا العمرة والحمد لله.
بعد يومين من المكوث في أحضان مكة توجهنا إلى جدة حيث المناظر الجميلة والأسواق الكثيرة والنشاط الاقتصادي الكبير، أكلنا هناك الكبسة السعودي واشترينا بعض الملابس من سوق البلد بداية طريق المدينة "الطريق الطالع".
وفي عصر اليوم التالي توجهنا للمدينة فزورنا المسجد النبوي وصلينا في قباء وذي القبلتين، وفي صبيحة يوم الخميس توجهنا إلى الرياض وفي ظهر يوم الجمعة توجهنا إلى الهفوف ومنها للدوحة في قطر.
عودا حميدا أحمدا
وحمد الله على السلامة.
إلى لقاء .. واستودعكم الله
No comments:
Post a Comment